الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان يا نعيم إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي يوم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن وبدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهل ابن عمرو وهو يضمنها لك وبعد أن استدعاه وتعهد له بذلك أتى المدينة فوجد الناس متجهزين لميعاد أبي سفيان، فقال لهم لو عدلتم عن خروجكم لكان خيرا لكم، إني والله قد رأيتهم وما أعدوه لكم، والله لإن أتوكم في دياركم وقراركم لم يفلت منكم إلّا الشريد، أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم ما ليس لكم بطاقة لمقابلته، وو الله إن أخذوا بكم لا يفلت منكم أحد.فكره أصحاب الرسول الخروج، فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي، فرجع الجبان وتأهب الشجاع، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج في أصحابه حتى وافوا بدرا، وأقاموا فيها، ولما قضي الموسم ولم يحضر أبو سفيان وأصحابه وكان معهم تجارات ونفقات فباعوها وربحوا بالدرهم اثنين وكان مدة سوق بدر ثمانية أيام، وسيأتي لهذه الغزوة بحث في الآية 47 من سورة النساء الآتية إن شاء الله، وعليه فإن سياق الآية يفيد الارتباط بما قبلها، وإنها قصة واحدة، وقد يجوز الوجه الآخر، والله أعلم.روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا} أي الفقرة الأخيرة فيها وهي {حَسْبُنَا الله} إلخ قالها إبراهيم حين ألقي بالنار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، ويؤيد الحادثتين قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} وعلى اعتبار نزولها في بدر الصغرى يكون المراد بالناس أبا نعيم هذا إذ يجوز في لسانهم إطلاق الناس على الواحد باعتبار أنه إذا قال قولا ورضي به غيره، حسن إضافة ذلك القول إليهم كلهم، وعليه يكون قوله تعالى: {إِنَّما ذلِكُمُ} الذي خوفكم بجمع أبي سفيان هو {الشَّيْطانُ} أبو نعيم الذي رشاه أبو سفيان بعشرة من الإبل على أن يفتري تلك الفرية ولم يفز ببغيته، وقد خسر الدنيا والآخرة، وعلى المعنى الأول ركب عبد القيس الذي مرت الإشارة إليه في الآية 172 وهي المعبر عنه بالشيطان الذي {يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ} المنافقين إخوان المشركين {فَلا تَخافُوهُمْ} أيها المؤمنون لأنهم ضعفاء لا يستنصرون بالله ولا يعتمدون عليه، وكذلك المنافقون الّذين يأخذون بقوله، جبناء، لا يثقون بالله ويشكون في وعده ودعوة نبيه، فانبذوهم {وَخافُونِ} أنا وحدي الجبار القاهر عظيم البطش {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} بي وبرسولي، ثم التفت يخاطب سيد المخاطبين بقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ} يا حبيبي {الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} من المنافقين والمشركين فإنهم لا يضرونك والله معك {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا} بمسارعتهم لقتالك الذي هو نفسه كفر، وإنما يضرون أنفسهم {يُرِيدُ الله أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} ويكلهم إلى الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)} لا تطيقه قواهم لأنه من إله عظيم.هذا، وعلى القول الأول تكون هذه الآية آخر قصة أحد لأنها متعلقة بما قبلها، وغزوة حمراء الأسد تبع لها وعلى الثاني يكون آخرها قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ومن قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} الآيات إلى هنا تعتبر نازلة في واقعة بدر الصغرى، والله أعلم.روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.ورويا عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها.ورويا عن أبي سعد قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي الناس أفضل؟قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال ثم من؟ قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى، وفي رواية يتقي الله ويدع الناس شره.ورويا عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما بأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين.راجع ما يتعلق في بحث الدين في الآية 280 من البقرة المارة.وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته.وأخرج الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما يجد الشهيد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرحة.وروى البخاري عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من احتبس فرسا في سبيل الله، الحديث تقدم في الآية 60 من سورة الأنفال المارة ومعه أحاديث كثيرة في هذا البحث.وأخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل، فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر.ورويا عن سهل بن سعد المذكور من الحديث الثاني في هذه الأحاديث المارة بزيادة: والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها.وروى مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان.قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان} أي المنافقين لأنهم كفروا بعد إيمانهم فغبنوا وخابوا وخسروا أنفسهم لأنهم ببيعتهم الخاسرة {لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا} بل خسروا أنفسهم وحدها في الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)} في الآخرة، ولا تكرار في جملة {لن يضروا الله} وفي جملة {ولهم عذاب أليم} لأنها في الآية الأولى في جميع الكفار وهذه في المنافقين المتخلفين فقط وتلك مختومة بلفظ عظيم وهذه بلفظ أليم.قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بتاء الخطاب لحضرة الرسول وبالياء على الغيبة لعموم الكفار، ولا يخصصها قول من قال إنها نزلت بالمشركين وبعض يهود بني قريظة والنضير الذين سبق ذكرهم وسبق في علم الله عدم إيمانهم {أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم ونؤخرهم ليعتقدوا أن ذلك {خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} كلا لا يظنوا ذلك بل هو شر لهم بدليل قوله عز قوله: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا} فتكثر أوزارهم في الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)} في الآخرة ينسون بكبير هوانه عز الدنيا وما فيها لو كانت كلها لهم.روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله، قيل فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله.وقال ابن الأنباري: قال صلّى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه، ثم تلا هذه الآية.قال تعالى: {ما كانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} بحيث لم يعرف المخلص من غيره {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وذلك أن المؤمنين سألوا رسول الله آية يعرفون بها المخلص من المنافق، فأنزل الله هذه الآية أي لم يترككم على هذا الاختلاط والالتباس بل لابد وأن يبين المؤمن الموقن والكافر المصر.وهذا بعد واقعة أحد، لأن المؤمن ثبت على إيمانه وازداد إخلاصا، والمنافق جاهر في نفاقه وازداد كفرا فظهر للناس حال الطرفين {وَما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أيها المؤمنين توا لتميزوا بين الطرفين لأن هذا من الغيب وهو من خصائص الله.واعلم أن فعل يذر لا ماضي له، راجع الآية 278 من البقرة المارة، (28).ولا تنوهموا أن رسولكم يعلم شيئا دون تعليمنا إياه لأن شأنه في الغيب شأن غيره {وَلكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} فيطلعه على ما يشاء من غيبه دلالة على نبوته لخلقه لئلا يبطنوا له خلاف ما يظهرونه {فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ} كلهم محمد فمن قبله {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} بالرسل كلهم {وَتَتَّقُوا} جميع ما نهيتم عنه {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} من الرب العظيم الذي يعطي العظيم {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ} زيادة على كفايتهم {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} كلا أيها الإنسان الكامل {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} بالدنيا بالذم وبالآخرة {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ} على رءوس الأشهاد {يَوْمَ الْقِيامَةِ} فيراهم أهل الموقف، لأنهم لم ينفقوا ما أعطيناهم في طرق الخير ثم تركوه لغيرهم وتحملوا عقابه {وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لأن أهلهما يموتون وهو الباقي الوارث لهم {وَالله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}.
|